الإهداء
إلى أرواح الشهداء الذين لم تكتمل حكايتهم،
إلى الأطفال الذين كتبوا بالرماد قبل أن يتعلّموا الحروف،
إلى كل من عاش القهر ورفض الانكسار،
إلى فلسطين... التي لا تنكسر رغم كل الرماد.
اقتباس افتتاحي
ـ "سنحيا رغم الموت، وسنكتب ولو على الرماد."
— من رواية رماد المخيم
كلمة الكاتب (مقدمة أدبية)
كتبت هذه الرواية من قلبٍ عاش ألم المخيم، ومن جرحٍ عاصر الحصار، ومن دموع أطفاله الذين حملوا الحروف رغم كل شيء.
"رماد المخيم" ليست مجرد قصة، بل شهادة على حياة لا تريد أن تنطفئ، وصراخ على أرض غُيّبت فيها الكلمات.
لكل من فقد الأمل،
لكل من ينتظر الفجر،
هذه الرواية لكم...
لتكون صوتًا لمن لا صوت لهم.
فهرس الفصول
1. رماد الخبز
2. أبواب مغلقة
3. الظل الذي لا يموت
4. النفق
5. الدفتر الأزرق
6. الحاج معروف
7. أنفاس تحت الركام
8. وطن على قيد الرماد
الفصل الأول: رماد الخبز
كان الفجر بطيئًا، ثقيلًا، كأنه يزحف على ركبتيه فوق أسطح المخيم.
الناس لم تنم، فقط أغلقت جفونها انتظارًا لصوت المخابز إن اشتعلت، أو لصوت الرصاص إن أُطلقت.
في زقاق ضيق، يقف آدم بجانب طابور منحنٍ كأنه عصا مكسورة.
بيده كيس قماش قديم، وقلبه ينبض كطبول الحرب.
أرغفة الخبز في المخيم ليست طعامًا...
هي بطاقة هوية، وشهادة حياة.
من ينجح في اقتناصها، يظل حيًّا ليومٍ آخر.
ومن يعود دونها، يعود بالخذلان على وجه أطفاله.
“رماد... كله رماد!”
صرخت امرأة من آخر الطابور، وهي تحمل رغيفًا محترقًا كأنها تحمل قلبها...
احترق الفرن، لا غاز، لا طحين، لا عُمّال، لا كرامة.
كان طفلها يبكي من الجوع، فانتفت من الرغيف المحروق فتاتًا، وتضعه في فمه.
ينظر إليها الطفل، لا يعرف إن كان يأكل خبزًا أم رمادًا.
آدم يتقدّم قليلًا، يده على كيسه، والعرق على جبينه.
في عقله دوّى صوت قديم لأمه:
ـ "الخبز مش طعام يا آدم، الخبز كرامة،
اللي ما يذوق الذل عشان لقمة، ما بيعرف معنى الوطن."
أمينة، جارته، مرّت من خلفه تحمل طفلًا، عيناها تفضحان بكاءً مكتومًا.
قالت له بصوت متكسّر:
ـ "أبوك كان يقف هون، بنفس المكان… وراح."
آدم لم يجب.
نظر إلى جدران الفرن المغلقة، حيث كتب أحدهم:
ـ "نموت ولا نأكل الذل."
ثم مسح الجملة، وكتب تحتها:
"لكننا جائعون..."
أطلق جنود الاحتلال قنبلة غاز، فاختنق الناس، وتفرّق الطابور كرماد في الريح.
سقط الكيس من يد آدم، ولم يسقط آدم.
ركض نحو الزاوية، حيث يجلس طفل صغير يبكي.
أعطاه حبة تمر وحضنه، وقال:
ـ "مش راح نموت يا صغير... راح نعيش ونكتب،
نكتب على الرماد... إننا كنا هنا."
وفي المساء، جلس في بيته، وفتح دفترًا أزرق قديم، وكتب:
ـ "اليوم، احترق الخبز، لكن لم تحترق إرادتنا."
الفصل الثاني: أبواب مغلقة
لم تكن الأبواب في المخيم تُغلق لمنع البرد...
كانت تُغلق لحبس الخوف، وستر الانكسارات،
وحماية الأسرار التي لا يليق بها أن ترى الشمس.
بيت أمينة كان أحد هذه الأبواب.
بابٌ خشبي مائل، مطليّ بلونٍ أزرق باهت،
تخدشه الرصاصات القديمة، وتشهد عليه ورقة صفراء مكتوب عليها:
ـ "إعاشة - 2003"
في الداخل، لا يوجد شيء اسمه "أمان"،
بل صمت ثقيل، وطفل نائم بلا غطاء،
ورائحة من الزمن الغابر.
كانت أمينة تقف عند النافذة، تنظر إلى الخارج ولا ترى سوى الفراغ...
فراغ ممتد من الباب إلى السماء،
ومن الطحين المختفي إلى الذاكرة المثقوبة.
كانت تقول دائمًا:
ـ "أصعب شي مش الجوع،
أصعب شي لما يطرق الباب صوت، وما تلاقي حدا."
باب بيتها لم يُطرق منذ زمن...
لا جندي، لا غريب، لا قريب...
حتى آدم، الذي كان يمرّ كل يوم، أصبح صوته باهتًا خلف الحواجز.
ذات مساء، سمعت طرقًا خفيفًا.
تجمّدت في مكانها، قلبها يسأل:
ـ "أمل؟ أمن؟ قهر؟"
فتحت الباب بحذر،
وجدت على العتبة ورقة مطوية، كُتب عليها بخط يدٍ مألوف:
ـ "انتظري الليل، سأفتح بابًا لا يُغلق."
— آدم
كان ذلك قبل أن يبدأ الحاج معروف بحفر النفق...
وقبل أن تبدأ القصة تتسلل من الجدران إلى النور.
آدم عاد إلى منزله، أمسك دفتره الأزرق، وكتب:
ـ "الأبواب التي تُغلق في وجوهنا، لا تمنعنا من الخروج،
بل تعلّمنا كيف نحفر."
الفصل الثالث: الظل الذي لا يموت
في المخيم، لا تشرق الشمس وحدها،
بل تُولد معها ظلال لا تختفي،
ظلال تسير بين الناس، تلامس القلوب، ترفض الانكسار.
كان آدم يعرف جيدًا ذلك الظل،
ظل أمه، ظل أصدقائه، ظل المخيم كله...
ظل الموت الذي يُرافق الحياة، ظل الألم الذي ينمو كجذر لا يُقطَع.
في زقاق صغير خلف السوق القديم، كانت هناك شجرة زيتون عجوز، تحكي قصصًا من دموع وأمل.
ظلها يتسع لكل من لجأ تحتها،
لأولئك الذين فقدوا بيوتهم، لكن لم يفقدوا إرادتهم.
في إحدى الليالي، جلس آدم تحت الشجرة،
والقمر يرسم ظله على الأرض كخيط رفيع من الفضة.
أتاه صوت طفل صغير من بين الركام يسأله:
ـ "لماذا لا يموت الظل يا آدم؟"
ابتسم آدم بحزن، وأجاب:
ـ "لأن الظل مثلنا يا صغيري،
لا يموت مع النور،
ولا يتركنا وحدنا في الظلام."
في تلك اللحظة، وقف الحاج معروف بجانبه،
نظر إلى السماء وقال:
ـ "كل رماد يحمل ظلًا، وكل ظل يحمل سرًّا،
وسرّنا هو أن لا ننطفئ."
كتب آدم في دفتره الأزرق:
ـ "الظل الذي لا يموت هو روحنا التي تحيا في كل زاوية من زوايا المخيم."
الفصل الرابع: النفق
تحت أنقاض البيوت المحطمة،
تحت أصوات الانفجارات التي ترقص في الهواء،
كان هناك نفق لم يُرَ إلا من قلة قليلة.
النفق كان كجسدٍ مخفي،
كسر في ظهر المخيم لا يُسمع صوته إلا لمن يبحث بعمق.
وقف الحاج معروف عند مدخله،
يده ترتجف قليلاً، ليس من الخوف، بل من ثقل المسؤولية.
قال بصوت منخفض:
ـ "هذا الطريق لن يأخذنا إلى الحرية فقط،
بل سيعيد لنا ما سرقوه: الكرامة، واللقمة، والحياة."
آدم وأمينة كانا ينتظران،
كلٌّ منهما يحمل في قلبه سؤالًا أكبر من ألمه.
النفق لم يكن مجرد ممر،
بل جسرًا بين رماد الماضي ونور المستقبل.
في داخله تضيء شمعة صغيرة،
تراقصت ألسنتها في الهواء البارد،
الظلام لم يكن قاتلًا، بل حافظًا للأسرار.
كتب آدم على جدار النفق:
ـ "من تحت الركام، تولد الحكايات،
ومن أعماق الظلام يشرق النور."
في عمق النفق، وجدوا رسالة محفورة على حجر:
ـ "الوطن هنا، مهما طال الغياب."
خرجوا من النفق، وعينهم تلمع بالأمل، رغم ما خلفه الرماد.
الفصل الخامس: الدفتر الأزرق
في زاوية مهجورة من البيت القديم،
بين الغبار والذكريات، وجد آدم ذلك الدفتر الأزرق.
صفحاته صفراء، وكل حرف فيه ينبض حياةً من زمنٍ كان يُظن أنه انتهى.
الدفتر لم يكن مجرد أوراق،
بل شهادة على الوجع، والأمل، والتمرد الصامت.
فتح آدم الدفتر بيدٍ مرتعشة، وبدأ يقرأ كلمات كتبتها يد غابت، لكنها لم تغب قلوبها:
ـ "إذا كان الوطن جرحًا، فلن أسمح أن يموت جرحٌ من جروحي."
كل صفحة تحكي قصة،
قصة طفل لم يُولد بعد،
قصة امرأة فقدت بيتها،
قصة رجل لم يرَ ضوء الشمس منذ سنوات.
وقفت أمينة بجانبه، وعيناها تلمعان بالدموع،
وقالت بصوت متهدج:
ـ "هذا الدفتر هو ما تبقى لنا... حكايتنا المكتوبة بدم القلب."
كتب آدم على الصفحة الأخيرة:
ـ "الدفتر الأزرق ليس فقط صفحات،
إنه روحنا التي نكتبها بدمنا كل يوم."
في تلك اللحظة، أدركوا أن كلمات هذا الدفتر ستُشعل نارًا في الظلام،
وأن الحكاية ليست فقط عن الألم، بل عن القوة التي تنبع من الصبر والذاكرة.
الفصل السادس: الحاج معروف
كان الحاج معروف رجلًا من زمنٍ آخر،
وجهه محفور بخطوط التعب والحكمة،
وعيناه تشعان بحكايات لا تُروى.
لم يكن مجرد رجل في المخيم،
بل كالنخلة الصامدة وسط العاصفة،
يحمي ظلها من يحتمي بها، ويمنح من يئس الأمل.
كان يعرف كل حجر، وكل زقاق، وكل قلب في المخيم،
وفي صمته كانت أطنان من الكلمات التي لا يستطيع أن يقولها.
في إحدى الليالي، جلس مع آدم وأمينة تحت شجرة الزيتون، وقال:
ـ "يا أولادي، النصر مش بس بالقوة،
النصر بالصبر، بالثبات، وبأن نكتب الحكاية رغم الألم."
كشف لهم سرًا عن النفق الذي كان يحفره منذ سنوات، وقال:
ـ "هذا النفق مش بس ممر،
هو رمزية، طريق من رماد الألم إلى نور الحرية."
ثم أضاف بصوتٍ متأثر:
ـ "من دونكم، ما كانت هذه الكلمات لتُكتب،
ومن دون إيمانكم، ما كان رماد المخيم ليشعل نار الأمل."
كتب آدم في دفتره الأزرق:
ـ "الحاج معروف هو ظلنا الذي يحمينا من كل الرياح."
الفصل السابع: أنفاس تحت الركام
بين الأنقاض المتناثرة، وبين جدران مهدمة تئن من الألم،
يختبئ الأمل في أنفاس لا تُرى،
أنفاس صامدة، لا تعرف الاستسلام.
آدم وأمينة يسرقان لحظات من الهدوء،
يجلسان بين ركام البيت الذي دُمر تحت أقدام الاحتلال،
لكنّهما يحملان في صدورهما حكايات لا تموت.
تحت الركام، ينبض قلب طفل صغير،
يحاول أن يخرج صوته وسط الصمت،
يحاول أن ينطق الحروف التي حُرقت، ولكن لم تُمحَ.
أمينة تمسح الغبار عن وجه آدم وتهمس:
ـ"حتى تحت هذا الركام، هناك حياة... هناك أنفاس."
يفتح آدم دفتره الأزرق ويكتب:
ـ "كل رماد هو بداية جديدة،
وكل أنفاس تحت الركام هي نداء للحياة."
ومن بين الركام، يمر صوت الحاج معروف يناديهم:
ـ "لا تستسلموا، فكل دمعة تُسكب،
وكل نفس يُحمل، يقربنا من الفجر."
في تلك اللحظة، شعرت المدينة بأن الحياة تعود،
رغم الدمار، رغم الألم، رغم الصمت القاتل.
الفصل الثامن: وطن على قيد الرماد
الرماد كان يغطي كل شيء... البيوت، الطرقات، الأحلام، والذكريات.
لكن تحت هذا الرماد، ينبض وطن لا يموت.
وقف آدم على أطلال المخيم، ينظر إلى السماء الملبدة بالغيوم،
وابتسم رغم كل الجراح.
في يده الدفتر الأزرق، وفي قلبه النار التي لا تنطفئ.
جاءت أمينة بجانبه، تحمل طفلًا صغيرًا، وقالت:
ـ"رغم الرماد، سنزرع بذور الحياة.
وطننا حيّ، رغم كل القنابل، رغم كل الظلام."
وقف الحاج معروف خلفهم، يداه مرفوعتان إلى السماء، يناجي ربه:
ـ "يا رب، اجعل من رمادنا خبزًا جديدًا،
ومن دموعنا نهرًا لا يجف،
ومن وطننا قصة لا تُنسى."
كتب آدم آخر جملة في دفتره الأزرق:
ـ "الوطن لا يموت، حتى لو تحول إلى رماد...
فكل رماد يحمل بذرة حياة."
ومع أول خيوط الفجر، بدأت أصوات الأطفال تعلو،
حروفهم تُكتب على الجدران، على الأرصفة، على القلوب،
وكأنهم يقولون للعالم:
ـ "ها نحن هنا... رغم كل شيء، نحن هنا."
صفحة الختام والتوقيع
بقلم: سامي إبراهيم فودة
الأسير المحرر – فلسطين
غزة، تموز / يوليو 2025
ـ توقيعي على هذا العمل شهادة بأننا نكتب لنحيا،
ونروي لنُبقي الوطن حاضرًا ولو تحت الرماد.
رواية: رماد المخيم
تاريخ النشر : 2025-10-27 13:09
