النفاق في المجتمع العربي من إثم إلى ذكاء اجتماعي
تاريخ النشر : 2025-10-28 21:55

يُعدّ النفاق—بوصفه شكلًا من أشكال الخداع وعدم الصدق—ظاهرة اجتماعية معقدة تثير إشكاليات أخلاقية جادة، حيث تُدان عادةً لتقويضها الثقة في العلاقات الإنسانية. إلا أن النظر إليه يختلف عبر السياقات الاجتماعية والثقافية؛ فبينما يُنظر إليه في المجتمعات الغربية على نحو سلبي غالبًا، فإنه في المجتمع العربي—بتركيبته الاجتماعية المتميزة التي تُعلي قيم الترابط الاجتماعي والشرف—يظهر كسلوك متعدّد الأوجه، يتراوح بين كونه آفة أخلاقية وبين كونه آلية تكيّف اجتماعي قد لا يُنظر إليه على أنه سلبي للوهلة الأولى، بل كمهارة اجتماعية معقدة تؤدي وظائف عملية في الحفاظ على الانسجام والاحترام بين الأفراد.

تُعد مفاهيم حفظ ماء الوجه، وحماية الشرف والمكانة الاجتماعية، والحفاظ على السمعة، ذات أهمية مركزية في المجتمعات العربية التي تتسم بسمات هرمية واضحة، حيث يُولى أهمية كبيرة للسلطة واحترام الكبار. في هذا السياق، يمكن أن تتحوّل المواجهة الصريحة أو النقد المباشر إلى إهانة تهدّد ليس فقط العلاقات الفردية، بل تماسك النسيج الاجتماعي برمته. وفي هذا الصدد، يشير هشام شرابي إلى أن الحفاظ على الشرف (العِرْض) والوجه الاجتماعي من الضرورات الاجتماعية الأساسية، مما يدفع الأفراد—للحفاظ على سمعة العائلة ومكانتها الاجتماعية—إلى تبني "أقنعة" سلوكية قد لا تعبر بالكامل عن معتقداتهم أو مشاعرهم الخاصة. هذا السلوك الذي قد يُنظر إليه من الخارج على أنه نفاق، يُعد في الواقع آلية تكيّف اجتماعية تساعد في الحفاظ على هذا النظام الهرمي المعقد.

تُبرز الإشكالية الرئيسية في التمييز بين النفاق والمجاملة كيف يتقاطع النفاق مع مفاهيم إيجابية مثل اللباقة والتواصل غير المباشر وضبط الانفعالات. فسلوكيات مثل قول "نعم" مع قصد "لا"، أو تقديم مدح غير صادق، أو الامتناع عن النقد المباشر، قد تُستخدم لتجنب النزاع والحفاظ على السلم الاجتماعي، حتى لو تعارضت مع قناعات الفرد الشخصية. وهنا تكمن الحدود الفاصلة: فالمجاملة الحقيقية تنبع من الاحترام والرغبة في إدخال السرور، وقد تتطلب كتمان رأي سلبي تجنبًا للإحراج، لكنها لا تنطوي على نية الخداع. بينما يتحول السلوك إلى نفاق عندما يصبح إظهار الإعجاب الزائف أو الموافقة الكاذبة أداة منتظمة للمراوغة وكسب المزايا على حساب الصدق.

تُظهر الممارسات اليومية في السياقات الاجتماعية والمهنية ذلك الخط الدقيق الذي يفصل بين المجاملة المقبولة والنفاق المذموم. ففي التجمعات العائلية، نرى كيف يثني الحاضرون على أطباق أو ملابس لا تعجبهم فعليًا، حفاظًا على جو الود وتجنبًا لإحراج المضيفين. وبشكل موازٍ، يظهر هذا النمط السلوكي في بيئة العمل، حيث يمتنع الموظف عن التعبير عن رأي سلبي أو نقد مباشر لمديره، رغم وجود تحفظات حقيقية، حرصًا على استقرار وظيفته وسلامة أجواء العمل. وتظل هذه السلوكيات تقف على الحافة الضبابية بين المجاملة الاجتماعية المقبولة التي تهدف إلى الحفاظ على الانسجام، والنفاق الوظيفي الذي قد يتحول إلى أداة للمراوغة وكسب المزايا.

على الرغم من أن هذه الآلية تحافظ على الهدوء السطحي للنسيج الاجتماعي وتمنع النزاعات المباشرة، فإنها تحمل ثمنًا باهظًا على المستويين الفردي والجماعي. فالنفاق المفرط لا يؤدي فقط إلى تآكل الثقة الحقيقية وخلق فجوة عاطفية بين الأفراد، بل يدفع أيضًا إلى قمع المشاعر الحقيقية وإخفاء الذات الحقيقية، مما يولد شعورًا بالاغتراب ويستهلك طاقة نفسية وفكرية هائلة في التعامل مع عبء الحفاظ على المظاهر. وفي هذا الصدد، يبرز هشام شرابي ذلك التوتر الجوهري بين الرغبات الفردية والتوقعات الاجتماعية الجماعية، حيث تدفع الضغوط المستمرة للامتثال علنًا إلى ممارسة واسعة لما يمكن تسميته بـ "الحديث المزدوج" أو انقسام الشخصية الاجتماعية، وهو شكل من أشكال عدم الصدق المقبول اجتماعيًا، رغم أنه يُفسر في جوهره على أنه نفاق.

يُظهر المجتمع العربي تناقضًا صارخًا بين الخطاب الأخلاقي النظري والممارسات الاجتماعية اليومية. فمن ناحية، يُشدّد الخطاب الديني والأخلاقي على قيم الصدق والإخلاص والصراحة، ويصل التنديد الديني بالنفاق—خاصة النفاق الاعتقادي—إلى أقصى درجات الحسم، أي أنّ أولئك الذين يظهرون الإيمان ويخفون النفاق في قلوبهم سيواجهون العقاب الأشد. وحتى على المستوى الأخلاقي المجتمعي، تنظر المجتمعات العربية بعين الريبة والشك إلى المنافق. إلا أن هذه القيم المثالية تتعايش، بشكل مأساوي أحيانًا، مع ممارسات اجتماعية راسخة تفرض نوعًا من "عدم الصدق المقبول" الذي يتجسد في النفاق والرياء والمجاملة الزائدة والمحاباة والأداء الاجتماعي المزيف، مما يخلق فجوة عميقة بين المثال الأخلاقي المُعلن والواقع المعاش اليوم.

تعكس بعض الأمثال العربية السائدة هذا التوازن بوضوح. فالمثل القائل: "الكلام من فضة، والسكوت من ذهب،" يؤكد على أهمية الحكمة والتقدير في اختيار الوقت المناسب للتعبير عن الصراحة والصدق. كما يعكس المثل "اصمت تَسلم" أهمية الصمت في بعض المواقف لتجنب النزاعات والحفاظ على التآلف الاجتماعي. ويشير المثل "من جاور السعيد يسعد" إلى أهمية الانسجام مع الآخرين والتكيف مع القيم الاجتماعية، حتى لو استلزم ذلك ضبط الصراحة أحيانًا. وفي السياق نفسه تأتي المقولة الشعبية: "اللي ما يعرف الصقر يشويه" التي تُستخدم لتبرير بعض التصرفات التي قد تبدو غير صادقة في ظاهرها، لكنها في جوهرها تهدف إلى تجنّب الخلاف وحماية العلاقات.

قد ينظر البعض إلى النفاق في المجتمع العربي على أنه فشل أخلاقي محض، لكن التحليل الموضوعي يكشف عن صورة أكثر تعقيدًا، حيث يظهر في كثير من تجلياته كاستجابة لضغوط نظام اجتماعي هرمي يقدّر الانسجام الظاهري فوق كل شيء. وبينما يمكن اعتباره آلية تكيف تساعد الأفراد على التنقل في علاقات شخصية معقدة تتسم بالشرف والاحترام، فإنه يتحول إلى آفة عندما يصبح منهج حياة. إن الاعتراف بهذه التعقيدات لا يعني تبرير النفاق، بل يشجع على تبني نظرة أكثر تعاطفًا لفهم الدوافع الكامنة وراء هذه السلوكيات، والتمييز بين ما هو نفاق مذموم وما هو مجاملة محمودة.

ويبقى تحقيق التوازن بين الصراحة والدبلوماسية تحديًا فرديًا وجماعيًا، فهو أمر جوهري للحفاظ على العلاقات الاجتماعية وضمان استقرار الحياة المجتمعية. فالفرد مطالب بالحكمة في التعبير عن رأيه، والمجتمع مطالب بخلق مساحات آمنة للنقد البناء والصراحة المحترمة. إن التعمق في فهم الثقافة العربية بتفاصيلها الدقيقة يسمح بالوصول إلى إدراك أعمق لهذه الإشكالية—ليس لتبرير النفاق، بل لفهم جذوره الاجتماعية ومعرفة كيف يمكن اجتثاثه بزراعة قيم الصدق في تربة من الاحترام المتبادل.