رواية: "رسائل من معدة فارغة

تابعنا على:   21:57 2025-10-30

سامي إبراهيم فودة

أمد/ المقدمة
في البدء لم أكتب، كنت أُؤكل.
أُؤكل ببطء. مرة بالانتظار، مرة بالخذلان، ومئات المرات بالجوع.
في الزنزانة التي لم تكن تسع حتى وجعي، لم يكن لدي طعام، لكنني كنت أملك شيئًا واحدًا: ذاكرة جائعة لا تشبع.
جاعت لسجادة صلاة، لرغيف ساخن، لصرخة لا تُقمع، لنظرة من أمّي خلف القضبان.
وحين طال الجوع حتى صار له طعم الحبر، أمسكت ما تبقّى من قلبي، وبدأت أكتب.
هذه ليست كلمات من كاتب يعيش في مقهى، ولا أدبًا منمّقًا. هذه رسائل من سجين نحت الألم في عظامه، من محاصر كان يقتات على رائحة الطهو عند جيرانه، من طفل صار شابًا على ضوء القذائف.
في كل رسالة هنا، قطعة من معدة فارغة. وفي كل سطر، شهقة كانت ستقتلني… فأنقذني الحبر.
لا تسألني كيف بقيت حيًا. فأنا لم أعِش… لكنني لم أمت بعد.

القسم الأول: جائع في الزنزانة
رسائل عن الجوع الجسدي، والعذاب اليومي في السجن.
رسالة 1 ـ صحن بلا لون
كان الطعام في السجن يُرمى إلينا كما تُرمى بقايا العظام لكلبٍ وحشي.
لم أكن أُفرّق بين العدس والهواء، بين الأرز والماء، كل شيء رمادي، بلا طعم، بلا رائحة، بلا احترام.
لكن الأصعب لم يكن ما يُقدم… بل ما لا يُقدّم.
في كل وجبة، كانت أمي تحضر في ذهني، بيدها المغطاة بالدعاء، ووجهها المبلل برائحة الزيت والزعتر، تناديني:
> "كول، يسعد قلبك يا يمّا."
ولا آكل.

رسالة 2 ـ الليلة التي حلمت فيها بالماء
لا تنم وأنت عطشان، لأن أحلامك ستصير مستنقعًا: أكواب تتبخر، أباريق تنكسر، وشفاهك تذبل حتى في نومك.
كنت أُرعب من صوت تنقيط الماء، وكأن كل قطرة كانت تُعدّ ضدي… كأنها تقول: "لن تشرب إلا إذا خضعت."
لكنني لم أخضع، بل شربت من كفّي، من عرقي، ومن صبري المتجلد.

رسالة 3 ـ الخبز أمنية دولة
في الخارج، الرغيف شيءٌ عادي. في السجن، الرغيف بيان ثوري.
مرّة، أرسل لي والدي في الزيارة قطعة خبز منزلي صغيرة، تم تهريبها داخل جورب. أخذوها مني… وكأنها خريطة هروب.
هل تعرف كم يساوي رغيف خبز من يد أمك؟
ليس فقط طعامًا… بل كرامة تُخبز معناها، ومُزقت على مائدة العالم.

القسم الثاني: مدينة تتنفس الحصار
رسائل من غزة: الجوع الجماعي، وجع الأم، الطفل، انتظار الخبز.

رسالة 4 ـ خبز ينتظر على النافذة
كانت النافذة الصغيرة في المطبخ آخر أمل لنا. كل صباح، تلتقط أمي نظرة قصيرة إلى الخارج، ترقب وصول الرغيف الذي قد يكون هناك، أو قد لا يكون.
كنت أجلس معها، أصغي لصمت الشوارع، لأشعر بقلبي يتوقف مع كل خطوةٍ بعيدة أو قريبة.
الرغيف هنا ليس مجرد طعام، هو رسالة حب وحياة، لكن غالبًا، يأتي الصمت بدل الرغيف.

رسالة 5 ـ الطفل الذي لا يعرف الجوع
في الأزقة الضيقة، رأيت طفلاً يبتسم رغم كل شيء. لم يسأل عن الطعام، ولم يشكُ يومًا من الجوع. كانت عيناه تملأها براءة غريبة، ونظراته تكتب قصصاً من صبرٍ لا يوصف.
تساءلت كيف يمكن لبراءة طفل أن تحمل ثقلاً كهذا؟
لكن الجوع هنا لا يقتل الروح، فقط يربك الأحلام.

رسالة 6 ـ أمي تصنع من القليل معجزة
حين تجف الأرض، وتنضب المياه، تجلس أمي بجانب الموقد الصغير، تحول حفنة من الحبوب إلى وجبة تكفي لنا.
يداها تتحدث بلغة الحياة، تعلمنا أن الصبر هو الخبز الحقيقي، وأن كل حبة تحمل معها وعدًا بالعودة.

رسالة 7 ـ المدينة التي تصمت لتسمع صوت الرغيف
في الليل، تغلق غزة عينيها، لكن في القلب، تستمر الأصوات: همسات الجوع، أنين الفقر، وأمل يختبئ بين الركام.
المدينة هنا تتنفس الحصار، لكنها لا تستسلم.
في كل سقطة خبز، هناك نبض حياة، وفي كل لحظة انتظار، ثورة صامتة.

القسم الثالث: الرغيف الذي كتبناه
الانتقال من الجوع إلى الفعل – الكتابة بدل الصمت – الرغيف كرمز للكرامة.

رسالة 8 ـ كلمة تُخبز من رحم الألم
في لحظة صمت، حين تكون المعدة فارغة، والكلمات لا تخرج، يبدأ الخبز يُخبز في داخلنا، كلمة تلو الأخرى.
كل حرف هو حبة قمح، كل جملة هي رغيف يُخبز بنار الصبر.
والكتابة هنا ليست مجرد حبر على ورق، بل حياة تُعاد من جديد.

رسالة 9 ـ الرغيف الذي صنعناه بأيدينا
لم نعد ننتظر الخبز يأتي من الخارج، بل بدأنا نخلطه بكلماتنا، نصنعه بحروفنا، نخبزه في نيران الحصار والصمت.
هذا الرغيف لا يُسرق، لا يُنهب، هو صدقنا، كرامتنا، صوتنا الذي لا يُكسر.

رسالة 10 ـ الحياة رغم الجوع
حتى في لحظة الجوع القاسي، حياتنا تستمر، وأحلامنا لا تموت.
الكتابة أصبحت طعامنا، والرغيف أصبح رمز المقاومة.
ليس فقط رغيفًا يأكل، بل كلمة تحيي، حكاية لا تنتهي، مستمرة كما تنبض الحياة في عروقنا.

رسالة 11 ـ الرغيف والكلمة
الكلمة هي الرغيف، والرغيف هو الكلمة.
حين نكتب، نخبز الحياة، وحين نُصرخ بالكلمة، نُعيد صنع الرغيف، نُعيد صنع كرامتنا.
لن يبقى الجوع مجرد معدة فارغة، بل سيصبح صوتًا، وصورةً، وفعلًا.

الخاتمة الملهمة
حتى في معدة فارغة، تستمر الحياة.
الكلمة هي خبز الروح، والرغيف هو أمل لا ينطفئ.

يمكننا أن نُصنع الخبز بالكلمة، وأن نزرع الحياة في كل رسالة.
الحياة لا تنتهي، حتى وإن غاب الطعام، حتى وإن صمت الجائع… فالكلمة باقية، وصوت الروح أقوى من الجوع.

اخر الأخبار