في ذكرى ميلاده 1916/1867
روبين داريّو: أمير الأدب الإسباني الذي تغنّى بفلسطين
لمتوكل طه
أمد/ ثمة إجماع نقدي يعتبر روبين داريو أباً روحياً للأدب الإسباني الحديث؛ ذلك أنه شاعر يفيض بالثقافات العالمية، الإغريقية ، الفرعونية، الفارسية، الهندية، العربية، ويتمثلها. وقد ذوّب أساطيرها في نصوصه، وعمل على أخذها بعدما نحتها وجعلها في سياق فنّي رائع. إن التناص في أعماله، عميق واسع وفنّي ومدهش! أنظر قصيدة "رأس الراوي الشرقي" على سبيل المثال. ولعلّ قصيدته "دون كيشوت" واحدة من النصوص التي تؤكد سعة اطلاعه، وامتلاكه القدرة على المحاججة والمناظرة والردّ والمداخلة على أفكارٍ وجودية، وعلى مقولات فلسفية، وعلى ميراث صعب، مثل كتابات نيتشه ومسرحيات، شكسبير"هاملت". إنه مفكّر يناقش ويعارض ويقاطع ويدلي بدلوه في مسائل مركبة وحساسة. وتلفتنا قصة "الساتوري الأطرش" لأنها تؤكد على مدى قدرة داريّو على هضم وتوظيف المعرفة الوسيعة والميثولوجيا اليونانية، لتكون رموزاً تكثف المعاني التي يريدها الكاتب.
ومما ساهم في توسيع دائرة معارف الشاعر، ورفدها بجداول حيايتة أثرت تجربته أنه عاش في نيكاراغوا، السفادور، تشيلي، الأرجنتين،غواتيمالا، كوستاريكا،وبنما، وزار إسبانيا وكوبا ونيويورك وباريس، وتفاعل فيها ومعها، شاعراً وصحفياً ودبلوماسياً ومقرباً من السياسيين والفاعلين.
تأثر بشعراء الرومانسية خاصة فيكتور هيجو، ألبار ناس، تيوفبل جوتييه، ليكونت دي ليسلي، كاتول مينديز، خوسيه ماريا دي هيرديا.
لقّب ب "أمير الحروف القشتالية" وهو الأكثر تأثيراً ونفاذاً ونفوذاً في القرن العشرين في المستوى الشعري اللاتيني.
كتب السوناتات وهو ابن 10 سنوات، مثل "أناقة دمعة" التي لفتت إليه الأنظار ولقّبوه ب " الطفل الشاعر"
وهو كاتب متأمل إلى حد الفلسفة، ويرى ما يخنّق على الأنسان، ولديه الحكمة المقطرة، لكنها حزينة ومدركة لتراجيديا الحياة.
وهو مُشتبك مع ما حوله من قضايا كبرى، ولديه موقف مما يدور حوله من تحديات، بفهم عميق يتناولها ويفككها- قصة "روزفلت" تدلل على ذلك تماما-.
ونراه مدركاً لكل القمع التاريخي والثقيل الذي وقع على رأس البشرية، لكنه ينتهي دائماً إلى الثورة، وإلى ضرورة كنس الجبابرة والمتكبّرين، أنظر قصيدة "توتيكو" .
وداريّو صاحب قصيدة مرصّعة بالكثير من الرموز والأسماء والمواقع والأحداث، جاء بها ليكثّف معنى محدد بمهمة، وليحيلك إلى أزمنة وأساطير كبرى ماضية، ما جعل قصيدته غنية وغامضة ومثقفة.
وشاعرنا يؤمن بأن عليه أن ينحازللثورة، ويصطف مع المقاتلين ضد الجلادين والطغاة، أنظر قصيدة "الشعراء أبراج الله".
وداريّو الذي يدعو إلى السلام الاجتماعي ويعلي من قيمة المفردات المطلقة والبيضاء، هو ذاته الناقد الاجتماعي الذي يريد للمجتمع أن يكون صافياً، بعيداً عن الطمع والجشع والتوحّش والاستغلال، أنظر قصيدته الرائعة "دوافع الذئب".
ونلحظ أن هناك نفساً قصصيا، بمعنى أن قصيدته قصة،وقصته قصيدة، ما يمنحها جمالاً وتشويقاً وتميزاً.
وثمة قصيدة رائعة هي"الوردة الطفلة" وهي معادل موضوعي وانعكاس لتأملات الشاعر الروحية التي استلمها من فلسطين مهد الديانات:
في فلسطين
كريستال وذهب ووردة
والفجر
يخرج ثلاثة ملوك لعبادة الملك
قبس إلهي يملأ زهرة الطفولة.
والذي يميّز شاعر عن آخر، رغم أن الموضوعات مُلقاة على الطريق،
هي الطريقة التي يقولها بها؛ جديدة، مباغتة،غير معهودة،حسّاسة،مصوّرة،متعالقة بأشياء غير متوقّعة، المفردة الطازجة، وشحنها بسياق يمدّها بدلالات مبهرة وحديثة، ما يجعل النص لا يشبه نصّاً آخر من قبل. وهذا ما فعله داريّو، إضافةً إلى الإتيان بأشكال جديدة؛ إيقاعية نفسية، ومطرّزة بنمطٍ تمّ اجتراحه لأوّل مرّة، وأن يشتبك النص مع الواقع، لا يهوّم في العدم والفراغ، بل يتصل بهموم الناس وتطلعاتهم وتأملاتهم وأحلامهم.. بصدق وانحياز، بعيداً عن الإبهام والإغراق في المعتم والهامشي والذاتي.
***
وروبن داريّو القاص، ينافس داريّو الشاعر كثيراً، وربما يتفوّق عليه، وهذا يثبت أن الشاعر ينبغي أن يكون معادلاً موضوعياً لشِعره،من حيث التجلّي والفنيّة والنضوج وإحداث الدهشة. فقصة "الملك البرجوازي"، قصة جارحة تحكي عن الشاعرالذي يضطر خوف أن يموت جوعاً أن يتخلّى عن دوره ومهمته، لكنه للأسف يموت عارياً وتحت الجليد.
وأما قصة "الحورية، فهي رومانسية، إنها الجمال الباريسي الذي ينبغي للشاعر أن يراه وسط ضجيج المسوخ، التي تحدّث عنهم كافكا، وهو ما يعكس رؤية الكاتب الغربي لما آلت إليه حال "الإنسان" الذي تشيّأ وصار مسخاً.
وتبدو قصة "العصفور الأزرق" رمزاً للحرية المسجونة في جمجمة الشاعر/ الكاتب والتي لا يمكن أن يتحرر منها إلا بالرصاص، إنها قصة مذهلة. واللافت أن الشاعر والمفكر الفلسطيني د. عبد اللطيف عقل كتب نصوصاً سردية بعنوان سرّ العصفور الأزرق كالدم، ويبدو لي أنه كان قرأ داريّو، وتأثر به.
وتحضر قصة "الطرد" مثلاً، لتختصر حالة الجوع والفقر والبؤس الذي يعيشها الناس الفقراء، ضمن واقع مزرٍ مهول، ويختصر الظلم الذي يحلّ بالمعوزين الذين يفتقدون أبجديات الحياة الكريمة بحدودها الدنيا.
ويعتبر داريّو المعادل الموضوعي، عربياً، لأحمد شوقي ،وفلسطينياً لإبراهيم طوقان. ويقال إنه تأثر بالمدرسه الشعرية الفرنسية، وأنا أقول، ربما تأثر بأسلوبية القصيدة الفرنسية الحديثة، لكنه هضم كلّ الثقافات إلى حدّ مذهل ( اليونانية والفارسية والعربية والأوروبية، أدباً وفلسفة وفنوناً وموسيقى) ما أهلّه ليكون ما هو عليه من التميّز.
ويبدو أن القدر يبعث من يحافظ على خط الضوء في الشِعر على رأس كل قرن. أما العامل الحاسم في تفرّد أي شاعر مُبدع هو القراءة والمعرفة وهضم الحمولة الكونية التراثية والوعي، بعقل نحلة، تعطينا شهدها الخاص والفريد، بعد أن تمتص آلاف قطرات الرحيق من غير زهرة وبستان..
وقد حرص داريّو على أن تظل قصيدته بؤرة لاكتشاف عالم جديد، عداك عن قدرتها على الإدهاش:
" أيتها القصيدة أنت المعجزة التي لا تتوب عن صنع المعجزات"
لهذا قال الشاعر الفرنسي ألبرت سامين، عن ديوان" أزرق " لداريو: إنه الشعر الإسباني الذي لم نعهده من قبل.
أما الشاعر العظيم بورخيس فقد قال عن داريو: لقد خاض في تجارب شعرية حديثة انعتقت تقريباً من كل التزام تقليدي وضوابط صارمة سابقة، وتحوّل إلى حالة فردية يزدحم طقسها الداخلي بالعناصر المتعارضة المتناقضة والمتكاملة في الوقت ذاته. والشِعر عنده هو أوج نفسه وذروة عينه.
ويضيف بورخيس: روبن داريو الذي تأثرنا به جميعاً كأجيال شعرية ونثرية، في أمريكا اللاتينية وإسبانيا، لم يبق حبيس حدود تأثره بفرسان دائرة الشعر الفرنسي، بل انفتح على كل التجارب الشعرية والأدبية الإسبانية، قبل أن يستأنف ويتأثر بالفرنسيين، لهذا استفاد من كل الحمولات، ما جعل صوت الشعري أكثر غنىً وتعبيراً عن نزعاته ورؤيته الفنية والنفسية، ما أهّله للذهاب إلى التجريب المفتوح؛ مندفعاً بمسؤولية الشعر كفنّ مستقبلي للتعبير عن خلاصات الحقيقة الإنسانية التي لا تعرف الاستقرار.
كان داريّو مسكوناً وبقوة بهاجس التغيير والتطور الشعري.
ويقول المترجم والناقد العربي أحمد فرحات عن داريّو:
وجدته شاعراً يرسم قصيدته بعفوية مُشرقة، ويحرص دائماً على صقل أدواتها التعبيرية كي تأتي مُنسجمة مع الإحساس الدفين والعالي الذي ينطوي عليه، كما أنه ينتقي موضوعه بدقّة وغرابة متناهية، ويظلّ يحفر فيه حتى كلّ الأبعاد. ويريد أن يبقى سبّاقاً للمعنى، ويقظاً بغموضه الشفّاف، حتى يُرضي وَحش الشِعر القابع فيه.
لقد نقل داريّو الشِعر الإسباني إلى رحاب حداثة القرن العشرين، وانفجارات أنساقها المستمرة حتى يومنا هذا.
يعتبر كتابه" أزرق" بداية شهرته العام 1888، الذي أظهر الحسّ الحداثي الأدبي، وقد تلقّاه النقّاد بكثير من الترحاب والجديّة، وخاصةً الناقدة الإسبانية خوان فاليرا، وهي روائية مشهورة وذات تأثير كبير في عالم الأدب الإسباني، وقال عنه النقّاد بالإجماع بأن داريّو "مدعي عام الشِعر، وشاعر موهوب".
ترك داريّو أثراً عميقاً في شعراء الإسبانية، الذين اختاروا الدفاع عن الحداثة وتعزيزها في النصّ الشعري، ومنهم رامون ماريا، خوان رامون، جاسينتو بنيافينتي.
أشهر أشعاره: الأشواك، ريماس، أزرق، أغنية ملحمية لأمجاد تشيلي، الملاحظات الأولى، نثر مدنّس، أغاني الحياة والأمل، البجعات، قصائد أخرى، قصائد إلى ميتري، الأغنية المتحوّلة، قصيدة الخريف، أغنية إلى الأرجنتين، ليرا (نُشرت بعد وفاته).
وأشهر أعماله النثرية: النادر، اسبانيا المعاصرة، الحج، القافلة تمرّ، الأرض الشمسية، نثر مبعثر( بعد وفاته 1919)، تاريخ كتبي، الجزيزة الذهبية، حياة روبين داريّو بنفسه، كل شيء على الطائر، رسائل، الرحلة إلى نيكاراغوا، استعراض .
