رواية : وراء القضبان… حكاية صمود

تابعنا على:   16:55 2025-10-22

سامي إبراهيم فودة

أمد/ المقدمة:
ليست الحكاية عن سجنٍ فحسب، بل عن رحلة إنسانٍ عانق الموت كل صباح، وتوضّأ بالأمل في زنازين لا ترى النور.
هي حكاية وطنٍ محشورٍ في قفصٍ من الحديد، وقلوبٍ ما زالت تخفق رغم القيود.
وراء القضبان ليس الجسد وحده من يُقيّد، بل الذاكرة أيضًا حين تصير كل لحظة امتحانًا للصبر.
كتبتُ هذه الرواية من نبض الجرح، ومن رماد الأيام، لأقول:
إن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع من بين أنياب الليل.
ولأُخبر الأجيال أن في قلب كل أسير شعلة، وفي كل زنزانة ألف قصيدة لا تموت.

الإهداء:
إلى من ما زالوا هناك،
يحرسون الحلم في ظلمة الزنازين…
إلى رفاقي الذين ناموا على الحديد ولم يناموا في الوجدان.
إلى فلسطين التي تلد أحرارها من رحم العذاب.
إلى أمي التي علّمتني أن الدعاء باب الحرية،
وإلى زوجتي وأطفالي الذين انتظروني على حافة الصبر.
إلى كل حجرٍ حمل بصمة أسير…
وكل غيمةٍ مرّت فوق سجنٍ، وهمست: “الحرية قادمة.”

الفصل الأول: بداية وراء القضبان

لم يكن الفجر فجرًا حين طرقوا الباب.
كان الليل متجمّدًا على الوجوه، وصوت الأحذية العسكرية يخترق السكون كطعنة في صدر الصباح.
أمي ارتجفت وهي تهمس باسمي، وأنا أُخبئ قلبي في راحتي كطفلٍ خائف من المجهول.
لم أكن أول من يُعتقل في المخيم، لكن الوجع هذه المرة كان مختلفًا، كأنه جاء ليُقيم لا ليعبر.

قيدوا يديّ، وعصبوا عينيّ، وساقوني إلى حيث لا وقت ولا أسماء.
كنت أسمع وقع خطواتهم على الإسفلت، وأستشعر من أنفاسهم أن الكراهية لديهم عقيدة.
حين فتحوا باب الجيب الحديدي، دخلتُ ظلامًا لم أعرف له آخرًا،
لكنني كنت واثقًا أن وراء هذا الظلام، هناك فجر ينتظرني.

في تلك اللحظة فهمت أن السجن ليس مكانًا… بل امتحانًا للإنسان.

الفصل الثاني: الليل الطويل

الليل في السجن لا يُقاس بالساعات، بل بالأنين.
كل دقيقة تمر كأنها عام، وكل نَفَس يخرج مثقلًا برائحة العزلة.
كنا نعدّ الصمت كأننا نحسب أيامنا،
ونتعلّم كيف نحيا بحدٍّ أدنى من الضوء وبحدٍّ أقصى من الكرامة.

كنت أرى وجوه الرفاق على ضوء اللمبة الصفراء الخافتة،
كأنها وجوه خرجت من تحت الركام، لكنها لم تفقد البريق.
أحدهم كان يحكي لنا عن أمه التي لم تزره منذ عشر سنوات،
وآخر يكتب شعرًا على ورق السجائر،
وثالث يعلّق أمنياته على جدارٍ متآكل ويقول: "غدًا الحرية."

هكذا تعلمنا أن نصنع من الألم وطنًا صغيرًا يسكن فينا،
نغنّي له حين نصحو، ونبكي له حين ننام.

الفصل الثالث: جدران لا تصدأ

ليست الجدران ما يمنع الحرية… إنها الخيانة والخوف.
جدران السجن صلبة، لكنها تصدأ إن لامستها الإرادة.
كنا نحفر أسماءنا بأظافرنا على الجدار كأننا نكتب وثيقة وجودنا.
الجدار بالنسبة لنا لم يكن حاجزًا، بل مرآة نرى فيها صمودنا.

كان الحارس يمرّ كل صباح،
ينظر إلينا باحتقارٍ لا يخلو من الخوف،
وكأنه يخشى أن تنفجر الجدران من كثرة ما تختزن من قصص.
كل زنزانة كانت وطنًا مصغّرًا: فيها الحلم، وفيها الثورة، وفيها الله.

وحين يأتي صوت الأذان من بعيد، كنا نرفع رؤوسنا للسماء المغلقة
ونقول في سرّنا: "الله أكبر من سجنكم جميعًا."

الفصل الرابع: رسائل بلا عنوان

كم رسالة كتبتها ولم تصل!
كنت أكتب لأمي عن قلبي الذي لم يعد يعرف الطفولة،
ولزوجتي عن صمتي الذي صار لغتي الوحيدة،
ولابني الذي لم يولد بعد، عن أبيه الذي انتظر النور من بين الحديد.

كانت الرسائل تمرّ عبر جدرانٍ من الحنين،
تتسرب من بين الثقوب كأنها دمعة تبحث عن حضن.
لم تكن الرسالة تصل، لكننا كنا نكتبها على أي حال،
لأن الكتابة كانت آخر ما تبقى من حريتنا.

ذات مساء، كتب أحد الرفاق رسالة إلى نفسه، ختمها بعبارة:

"إذا خرجتَ يومًا من هنا، لا تنسَ أن تحيا مرتين… مرة لأجلك، ومرة لمن بقوا."

الفصل الخامس: رائحة الحرية

الحرية لها رائحة لا تشبه شيئًا آخر.
رائحتها تشبه أول نسمة تدخل الزنزانة بعد سنوات من العتمة.
كنا نشمها في حكايات القادمين الجدد من الخارج،
وفي رسائل الأمهات حين يكتبن: "اشتقنا، لا تيأس."

بدأت الأخبار تتسرب همسًا عن صفقة تبادل قريبة،
وكأن النسيم صار أكثر دفئًا، والسماء أقل بعدًا.
كنا ننام على أمل، ونصحو على خوف.
أيعقل أن يكون هذا الحلم حقيقيًا؟
أيعقل أن نرى البحر دون أسوار؟

في تلك الليالي، كانت أرواحنا ترفرف في الزنزانة الضيقة،
كطيورٍ تتدرّب على الطيران قبل الفجر.

الفصل السادس: يوم الإفراج
ذلك اليوم لا يُنسى.
سمعت اسمي يُنادى من بين قوائم طويلة.
الضابط قالها ببرودٍ غريب،
لكن وقعها في قلبي كان كدقّ الطبول في ساحة النصر.
ارتجفت ركبتاي، ليس خوفًا، بل لأن الأرض لم تعتد بعد أن تحملني حرًّا.
الرفاق عانقوني واحدًا تلو الآخر،
كل عناقٍ كان وطنًا، وكل دمعةٍ كانت نشيدًا.
حين خرجتُ إلى الضوء، شعرت أن الشمس أكبر مما تخيّلت،
وأن الهواء له طعم آخر.
لم أعد أسمع ضجيج القيود، بل همس الحرية يقول لي:
"أنت عدت… لكن جزءًا منك سيبقى هناك."

الفصل السابع: خلف الأسوار… يولد الأمل
الحرية ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها.
خرجت من السجن، لكن السجن لم يخرج مني بعد.
كلما رأيت جدارًا تذكّرت الزنزانة،
وكلما سمعت صرخة طفلٍ تذكّرت رفاقي الذين ما زالوا خلف القضبان.

صرت أحمل حريتي على كفّي بحذر، كأنها شمعة في مهبّ الريح.
لكنني تعلمت من التجربة أن الأمل يولد في أضيق الأماكن،
وأن الإنسان حين يُكسر، لا ينتهي… بل يُعاد تشكيله من جديد.

وراء القضبان تعلمت أن الهزيمة لا تقتلنا،
بل توقظ فينا رغبة البقاء.
تعلمت أن الحرية فكرة، والفكرة لا تُعتقل.

الخاتمة:
ما زال في الروح متسع للغناء،
وفي القلب متسع لفلسطين.
وراء القضبان ولدت كلماتي،
ومن رماد السنين خرجتُ أكتب لأقول:

"إن الإنسان الفلسطيني لا يُهزم،
لأن في دمه حبر الثورة، وفي عروقه ضوء الأمل

اخر الأخبار