اشراقات الرواية التونسية وتطورها..بعد الخلاص من عقال الخوف..

تابعنا على:   14:06 2025-10-19

محمد المحسن

أمد/ «إن كتابة الثورة أو الكتابة عنها مختلفان ولكنهما يلتقيان عند الكاتب المُلتزِم الذي يستطيع أن يُزاوج بين الثورة كتجربةٍ إنسانيةٍ وبين الكتابة كمَلَكَةٍ وقُدرة على السفر بالواقع إلى التخييل وتقديمه إلى القرَّاء الذين يمنحونه حيوات أخرى». (طه حسين في تلخيصه لأدب الثورة)

شهدت الرواية التونسية -منذ تسعينيات القرن الماضي-تطورا لافتا إن كان على مستوى التراكم الكمي أو التنوع الفني،حتى أصبح المشهد الروائي جزرا،بعضها للرواية الواقعية التسجيلية وبعضها لروايات الخيال العلمي وبعضها للرواية التاريخية، ولكن جزيرة الرواية التجريبية بدأت أكثر حضورا وتألقا في تونس.

وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على ظهور أول رواية تونسية-وهي رواية «الهيفاء وسراج الليل» لصالح السويسي القيرواني التي نشرت تباعا بمجلة «خير الدين» سنة 1906 -فإن العدد الإجمالي للروايات التونسية قد تجاوز اليوم الأربعمئة رواية.وهو عدد قليل نسبيا إذا علمنا أن الروائي الفرنسي بلزاك وحده،مثلا،قد ألف في القرن التاسع عشر أكثر من مئة رواية،يضاف إلى ذلك انخفاض أرقام السحب بوجه عام،إذ العدد الأكثر تداولا في سحب الروايات في تونس هو ألف نسخة ما عدا بعض الروايات التي أدرجت في أوقات ما ضمن برامج التعليم الثانوي.

ولمجرد المقارنة في هذا الباب نشير،على سبيل المثال،إلى أن رواية "ذاكرة الجسد" للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي قد صدرت منها إلى حد الآن أكثر من عشرين طبعة تجاوزت مجتمعة الخمسين ألف نسخة.وهو الكم نفسه تقريبا من النسخ التي سحبت من مئة وثمانين رواية تونسية.لكن ضعف حضور الرواية في الدورة الثقافية ليس كميا فحسب بل من جهة العناية النقدية أيضا.ذلك أن ثلاثة روائيين فقط استقطبوا فعلا اهتمام النقاد هم محمود المسعدي (صدر في شأنه قرابة الثلاثين كتابا) والبشير خريف (أطروحة مرحلة ثالثة وعدة ندوات صدرت إحداها في كتاب) وإبراهيم الدرغوثي (تم تناول أعماله الروائية في خمسة كتب فردية وجماعية) مع الإشارة إلى أن الروائي،بخلاف الشاعر أو الناقد أو الكاتب المسرحي،لا وجود له خارج عملية القراءة،وذلك لاستحالة وقوفه أمام الجمهور لقراءة رواياته.

*رواية «حارة السُّفهاء»

وبالعودة إلى التجربة الروائيّة التونسيّة،لا غرو أنّ بعض الرّوايات المثيرة للجدل لم تستطع شقّ طريقها إلى عالم النّشر في تونس إلّا بعد الثّورة، مثل رواية «حارة السُّفهاء» الصادرة عام 2013 للكاتب والمترجم التونسيّ علي مصباح،والتي بقيت حبيسة الأدراج لعشر سنوات،دون أن يُقدم على نشرها.تقدّم الرواية تأريخًا لنظام الحكم السياسي الحديث في تونس،وتحديدًا فترة انقلاب الرئيس التونسيّ الراحل بن علي على الزعيم الحبيب بورقيبة.

بأسلوب حاذق وساخر،يوثّق مصباحُ مراحلَ ولادة وموت الزّعيم الديكتاتوريّ المتكرّرة،ويفضح من خلالها الشّعب متورّطًا في السّفاهة عينها مرّة تلو الأخرى،شاهدًا وداعمًا لانتقال الديكتاتور من هامش الدّولة إلى سدّة الحكم.وسرعان ما يحطّم الديكتاتور آمال الشعب،بعد أن صدّقوا أنّ همومه وهمومهم واحدة،أنّه واحد منهم ومثلهم جميعًا: «من التّحت تسلّلت،انسَربت وتَحلّزَنت فطلعت وارتفعت وارتقيت،فوصلت ولم تقدروا! لستُ مثلكم، ولا أنا منكم.غادرتكم.مسحتُ يديّ وعرضي منكم. انتهيت منكم وسأُنهيكم إن شاء الله» ص 40.

*أصوات جديدة

يحضر الفضاء الهامشيّ بقوّة في المشهد الروائي التونسيّ بعد الثّورة،فالهامش الذي ينبثق منه الزعيم الديكتاتوريّ،بل ويصعد على ظهره وصولًا إلى السّلطة،هو الهامش ذاته الذي يُشعل الثورة على الأنظمة الديكتاتوريّة.ومن الهامش ذاته، تخرج أصوات تونسيّة جديدة إلى ساحة الأدب الروائي لتكتب الهامش الذي ظلّ يتّسع حتى طال المركز،وأثِّر في قراراته وتوجّهاته.

كتب بعض الروائيّين والروائيّات من الجيل الشابّ عن الثّورة أيضًا،وأخذت قضاياها تتداخل مع همومهم الشخصيّة وعُقدهم النّفسيّة،وتتقاطع مع مشاكلهم العائليّة،وتقتحم أضيق دوائرهم الاجتماعيّة،فشقّت طريقها إلى كتاباتهم بوعي منهم أو دون وعي.لم يكتب هؤلاء "الرواية السياسيّة" مثلما كتبتها النّخبة المُثقّفة من الجيل السياسيّ المُخضرَم،بل كتبوا عن -فوضى الثّورة الخلّاقة-من موقع الهامش،بأصوات مُغايرة وجريئة ومُتعثِّرة.

هؤلاء الشباب ظهروا في المشهد الروائي الحديث، وقدموا للمكتبة التونسية الجديد من الأعمال المحملة بالتجريب،تبعا لمسار الواقع التونسي، حيث تبدل النظام السياسي،فكان لا بد من ضخ دماء جديدة في الواقع الأدبي،ومن هذه الوجوه: سوسن عوري،وروايتها «فندق نورماندي»،وأماني مسعودي في روايتها «بيلادونا» ومحمد الحباشة في رواية "رجل شارع روما"وعبير قاسمي وصدرت لها رواية "جوليا".ويأتي انطلاق هؤلاء الشباب لعمق المشهد التونسي الروائي،بعد ثورة 2011 الشعبية،وزوال حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي،حيث امتلأت رواياتهم بنغمات جديدة حول الحرية والإنسانية الفائقة،وسرد ملامح الشعوب المنهزمة من الداخل،فكانت منشوراتهم مفعمة بالثورة والرغبة في الحياة من جديد،وعلى الرغم من كل الآلام،وفي الروايات الشبابية هذه تظهر المفارقات حول تفاصيل الواقع التونسي في ما قبل وبعد الثورة،وأزمة الشارع التونسي مع الحكم البوليسي والقمع عبر سنوات طوال.

وإذن؟

إذا،يافعون وثائرون وحالمون،جيل جديد من الروائيين ينبت في أرض تونس،يستقي إرثه السردي من الأسلاف،الجد المؤسس للرواية التونسية الحديثة محمود المسعدي،ثم الأجيال التالية: الراحل حسونة المصباحي والحبيب السالمي وحسين الواد،ومحمد عيسى المؤدب،وكمال الرياحي،وشفيق الطارقي.

لكن على الرغم من امتداد هذا النسب السردي العريق،إلا أن جيل الكتّاب الشباب في تونس يحتفظ ببصمته الخاصة،لكل واحد منهم خلطته المختلفة،في تونس المعاصرة،تونس ما بعد 2011 وما بعد زين العابدين بن علي.لذلك يسهل رصد حضور "الثورة" في روايات الكتّاب الشباب في تونس.

يتواكب بزوغ هؤلاء الكتّاب الشباب في تونس مع ازدهار ثقافي وأدبي قائم على عدة أنشطة وفعاليات،فمن جهة،جاءت دار "مسكيلياني" لتقتحم سوق النشر العربي وتحظى لنفسها بمكانة رفيعة في المشهد وتقدم أسماء تونسية وعربية قيمة،ومن جانب آخر يلعب "بيت الرواية" التونسي بإدارة كمال الرياحي دورًا حيويًا في تنشيط المشهد الأدبي ورفده بالعديد من الفعاليات والندوات وضخ خبرات لأسماء أدبية عربية كبرى في أوردة السرد التونسي.ومن المأمول أن يزداد إنتاج الرواية التونسية في المدى المنظور لمناطق تجريبية جديدة،إذ كانت الثورة لحظة انطلاق جديدة،كما كان من قبل التخلص من الاحتلال نقطة انطلاق للرواية التونسية،وشهدت الحركة الأدبية من بعدها نشاطا غير مسبوق.ولا ننسى الانفتاح العصري على التكنولوجيا،فقد ساهم في تفكيك كافة المنظومات الأمنية وزيادة الانفتاح على ثقافات الشعوب المتحررة،ومحاكاة الأزمات في البلاد الأخرى،واستلهام الأفكار منها ودمجها بالواقع.

ما أريد أن أقول ؟

بالتحرر من القبضة السياسية تحررت الكتابة من الرقابة وأساليب التورية،لتصبح أكثر جرأة ووضوحًا في نقد الأنظمة السابقة والواقع السياسي.وكما أشرت لرواية "حارة السفهاء" لعلي مصباح التي بقيت حبيسة الأدراج 10 سنوات قبل أن تُنشر بعد الثورة .

وبالاهتمام بالفضاء الهامشي اتجهت الرواية إلى تسليط الضوء على فضاءات وقضايا المجتمع المهمشة التي ظلت لعقود خارج دائرة الضوء . التطرق لقضايا مثل "الحَرقة" (الهجرة غير الشرعية)،الإدمان،البطالة،والعنف السياسي من منظور الأحياء الشعبية .

-تنوع القضايا والرؤى:لم تناقش الرواية السياسة المباشرة فقط،بل تداخلت الثورة مع الهموم الشخصية والعائلية والنفسية للشخصيات . معالجة قضية الإرهاب من منظور النساء في رواية "غلالات بين أنامل غليظة"عن :دار البدوي للنشر" للكاتبة عفيفة سعودي السميتي..في رؤية متجدّدة تتفاعل مع واقعها لتبصم على قلم توّاق إلى عالم الرواية بكلّ خصوصياتها الفنية واللغوية حيث ترى هذه الروائية القادمة على مهل أنه "في الجانب الآخر من الطريق كان الرصيف قد شرع يكتظّ واللغط قد بدا يعلو..وكان عبد الله ينظر إلى المآذن التي أضاءت الأفق الغانم وإلى فوانيسها التي انتشرت في جسد الأصيل كأكاليل مشعّة"..

-تطور الأساليب الفنية:وظف الروائيون تقنيات سردية مبتكرة،كالرمز والمحاكاة الساخرة والتناص والمفارقة،مما أضاف عمقًا جماليًا لأعمالهم . استخدام الخيال العجائبي والتحول الكاريكاتوري في رواية "الكوليبري وشجرة الأكاسيا"للكاتب والصحفي التونسي ماهر عبد الرحمن،لنقد المشهد السياسي .

في هذا السياق،يمكن رصد بعض الأعمال والاتجاهات البارزة التي شكلت ملامح هذه المرحلة:

- الرواية الواعية بذاتها: ظهرت أعمال تخلط بين الواقع والخيال،وتكسر الحواجز التقليدية للسرد، وتعكس وعيًا بذاتها كعمل فني،كما في رواية "الكوليبري وشجرة الأكاسيا" لماهر عبد الرحمان، التي تدمج بين سيرة صحفي وعوالم سحرية .

- النقد الساخر للواقع السياسي: لجأ بعض الكتاب إلى الرمزية والسخرية لنقل صورة قاتمة عن الوضع بعد الثورة.كتاب "فرانكشتاين تونس" لكمال الرياحي...

- أصوات جديدة من الهامش: برزت كتابات من before regions وأوساط كانت مُهمشة سابقًا، مقدمة رؤى جديدة تعكس تنوع التجربة التونسية وتتعامل مع الثورة ليس كحدث سياسي مجرد،بل كتجربة إنسانية معقدة .

على سبيل الخاتمة

قد لا أجانب الصواب إذا قلت أن القدرة على ابتكار أدوات البحث السردي والارتقاء بها من مجرد تقنيات فنية إلى مراق جمالية،الجرأة في تناول الموضوعات العادية البسيطة وتحويلها إلى أحداث فارقة في تاريخ الشعوب،الذكاء في التعامل مع الثيمات المقدسة،والتابوات المسكوت عنها،وتعشيق الأساليب السردية المألوفة بموتيفات فنية مستحدثة وتحويل المشهد السردي عموما إلى فاعل حقيقي في الحياة اليومية للفرد التونسي-ربما هذا هو-في تقديري-أهم ما يمكن أن يلخص ملامح الكتابة السردية في تونس بعد 14 كانون الثاني/يناير 2011.

وخلاصة القول،هناك طفرة كمية ونوعية تشهدها الساحة الإبداعية في تونس بعد الثورة،ويمثل سقوط حاجز الخوف النقطة الأهم في تشكيل مضامين المرحلة،وقد ارتبطت المدونة الروائية تاريخيا بالتّحولات السّياسية الكبرى فكانت رواية الستينات مرتبطة بحركة التحرر الوطني وبناء الدولة الحديثة كما تفاعلت رواية السبعينات مع إخفاق التجربة الاشتراكية وبداية التوجه الاقتصادي الليبرالي والتحولات الثقافية والاجتماعية التي عاشتها البلاد مع تغير التركيبة الطبقية والديموغرافية.وفي هذا السياق يأتي تطور الرواية بعد حدوث الثورة.

ختاما أقول : إن الرواية التونسية بع٧د الثورة قد تحولت إلى ساحة حية لتشريح الواقع وتعقيداته، مستفيدة من هامش الحرية المتاح لتوسيع آفاقها الفنية والموضوعية،إذ لم تعد الرواية مجرد مرآة عاكسة،بل أصبحت فاعلة في تشكيل الوعي والنقاش حول ماضي تونس وحاضرها ومستقبلها..

وهنا أقول ؛ الرواية التونسية اليوم هي "مقياس حرارة" المجتمع،تسجل نبضه،آلامه، تناقضاته،وأحلامه المحطمة أو المؤجلة.

بهذا المعنى،يتجاوز دور الرواية التونسية دور الشاهد إلى دور المشارك الفاعل في صناعة الوعي. إنها،فضاء للتعددية،حيث تتعايش مختلف الأصوات والروايات دون هيمنة واحدة،كما أنها

 أداة للمقاومة،مقاومة النسيان،مقاومة الخطاب الأحادي،مقاومة اليأس والإحباط.وهي بالتالي، مشروع نقدي مستمر،لا تقدم إجابات جاهزة،بل تدفع القارئ إلى التساؤل والنقاش والتفكير النقدي في ذاته ومجتمعه..

 

اخر الأخبار