بعد الحرب على غزة... سقوطُ وهمِ التطبيع وبدايةُ التحوّلِ العالمي

تابعنا على:   15:48 2025-10-28

د عبد الرحيم محمود جاموس

أمد/ لم تنتهِ الحرب على غزة بانتهاء القصف، ولم تتوقف آثارها بانسحاب الدبابات من بين الركام. فالحرب، في حقيقتها، لم تكن فقط معركةً عسكرية، بل اختبارًا سياسيًا وأخلاقيًا للعالم بأسره، وامتحانًا لضميرٍ إنسانيٍ بدا عاجزًا عن مواجهة مشهد الإبادة العلنية لشعبٍ أعزل يطالب بحقه في الحياة والحرية.
لقد كشفت الحرب الأخيرة أن المشروع الصهيوني يعيش أزمته الأعمق منذ نشأته؛ إذ سقطت روايته الأخلاقية أمام صور الموت والدمار، وتهاوى ادعاؤه بالدفاع عن النفس أمام المجازر اليومية التي ارتكبتها قواته. كما انكشف الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، وتراجعت صورته أمام الرأي العام العالمي الذي بدأ يرى إسرائيل كدولة احتلالٍ عنصريٍ وفاشيٍّ لا تختلف في جوهرها عن أنظمة الاستعمار القديمة.
في المقابل، شكّل صمود الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس إعادةً للاعتبار إلى جوهر الصراع: صراع بين شعبٍ يطالب بحقه في الحرية، وقوةٍ غاشمةٍ تسعى لطمس الهوية والأرض والإنسان.
لقد وحّد الألم الفلسطيني الصفوف، وأعاد إلى الواجهة فكرة المقاومة بوصفها تعبيرًا عن إرادة البقاء، لا مجرد خيارٍ عسكري.
وعلى المستوى العربي، أثبتت السنوات الماضية أن رهان بعض الأنظمة على التطبيع مع إسرائيل لم يحقق أي مكسبٍ حقيقي، لا سياسيًا ولا اقتصاديًا ولا أمنيًا، بل على العكس، كشفت الحرب على غزة هشاشة هذا الرهان، وأظهرت أن إسرائيل ليست شريكًا للسلام، بل مشروع توسّعي يعيش على الصراع.
فكل الوعود التي روّجت لها دبلوماسية “السلام مقابل الازدهار” تهاوت أمام مشاهد الإبادة في القطاع، لتؤكد أن التطبيع لم يكن سوى غطاءٍ لإدامة الاحتلال وتجميل وجهه الدموي.
إن ما جرى برهانٌ قاطع على أن التطبيع في ظلّ العدوان والظلم لا يجلب السلام، بل يُفقد العرب أوراق قوتهم ومصداقيتهم، ويحوّل العلاقات إلى تبعيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ لا أكثر.
لذلك فإن مراجعة هذا المسار باتت ضرورةً تاريخيةً وأخلاقيةً، لإعادة تعريف المصالح القومية من منظورٍ يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية كمعيارٍ أول لأي علاقةٍ أو تحالفٍ في المنطقة.
وفي خضم هذا التحوّل، برز الدور السعودي بوصفه الأكثر توازنًا وعقلانية في الدعوة إلى مقاربةٍ شاملة لإحلال السلام العادل، تقوم على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ومبدأ حلّ الدولتين، وضمان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وقد شكّل التحرك الدبلوماسي السعودي، بالتنسيق مع مصر والأردن ودول الخليج والعالم العربي، نواة لتكتلٍ دوليٍّ جديدٍ يسعى إلى إحياء مسارٍ سياسيٍّ واقعيٍّ يعيد الثقة بالشرعية الدولية، ويكبح جماح الانحياز الأميركي لإسرائيل.
إن هذا المسار، إذا ما تم دعمه وتفعيله بجدية، يمكن أن يشكّل المدخل الحقيقي لإطفاء حرائق المنطقة، ويعيد للقضية الفلسطينية موقعها الطبيعي في وجدان الأمة وأولويات المجتمع الدولي.
إن ما بعد الحرب ليس كما قبلها؛ فغزة غيّرت وجه الصراع، وعرّت الزيف السياسي الذي دام عقودًا، وأعادت إلى الوعي العربي والدولي أن العدالة لا تُقاس بالميزان الأميركي، بل بمعيار الحق الإنساني ذاته.
ولذلك فإن مستقبل القضية الفلسطينية اليوم لا يُرسم في العواصم الكبرى، بل في قدرة الفلسطينيين على توحيد صفوفهم واستعادة قرارهم الوطني المستقل، وفي إرادة الشعوب العربية التي أدركت أن التطبيع لم يجلب سلامًا، وأن الصمت على الجريمة خيانةٌ للإنسانية.
وهكذا تبقى فلسطين، رغم الألم والخذلان، مرآة الضمير الإنساني ومقياس العدل في هذا العالم المختل؛ فإذا استقامت قضيتها، استقام ميزان العدالة في الأرض.

اخر الأخبار