وجوه التجميل السياسي ... بين الكارثة والابتسامة الباردة

تابعنا على:   15:23 2025-10-29

د عبد الرحيم محمود جاموس

أمد/ في زمنٍ تتقاطع فيه الكاميرات مع الدمار، يخرج بعض المتحدثين ليبيعوا الوهم للناس، بابتسامات باردة كأنهم يعلّقون على مباراةٍ سياسية لا على مجزرةٍ عمرها عامان.
يتحدثون عن "الوقف الرسمي للحرب" وكأننا خرجنا من نصرٍ تاريخي، لا من محرقةٍ أحرقت البشر والحجر، وتركت وراءها أكثر من أربعمائة ألف شهيدٍ وجريحٍ ومفقود، وقطاعًا دُمّرَتْ ثمانون في المئة من بناه التحتية.
إنها مدرسةٌ جديدة في النفاق السياسي، تُسوِّق الخراب على أنه صمود، وتُحوِّل المأساة إلى مشهدٍ إعلاميٍّ ملوّن، وتغسل الجريمة بماء الشعارات.
من يتحدثون عن “هدنةٍ رسمية” بينما الطائرات لا تزال فوق رؤوس الناس، وعن “إنجازاتٍ وطنية” بينما الأطفال ينامون في الخيام، لا ينتمون إلى وجع غزة، بل إلى لغةٍ خشبيةٍ صُنعت لحماية الكراسي وتزيين الخسائر.
التجميل السياسي ليس مجرد خطأٍ في التعبير، بل جريمةٌ في الوعي، إنه محوٌ متعمّدٌ لدم الضحايا، وطمسٌ للحقائق تحت غبار “الصفقات” و”الضمانات الدولية”. فما جدوى التحدث عن تحرير الأسرى إن كان الثمن تشريد مئات الآلاف؟
وما معنى “النجاح الدبلوماسي” إن كانت رفح مدينةً من الركام؟
إن تحويل المأساة إلى مادةٍ دعائية هو الشكل الأشد قسوةً من الخيانة، لأنه يقتل الذاكرة مرتين: مرةً بالقصف، ومرةً بالتبرير.
الذين يجمّلون الكارثة يزعمون أنهم “ينقلون الصورة الواقعية”، لكنهم في الحقيقة يلبسون الجريمة ثوب الشرف.
يتحدثون عن “ضبط الإيقاع” و”الضمانات الدولية”، فيما الحقيقة أن غزة اليوم تحت وصايةٍ أجنبيةٍ غير معلنة، لا حربٌ تُخاض بكرامة، ولا سلامٌ يُبنى بعدل، بل خضوعٌ لمعادلةٍ تُدار من الخارج، تفرض على الضحية أن تصمت كي يُسمّى الصمتُ حكمة.
التاريخ لا يُكتب بالتصريحات، بل بالدم، والكارثة التي حلّت بغزة لا يمكن تجميلها ببياناتٍ سياسيةٍ مصقولة، ولا يُمكن التخفيف من فداحتها بتقارير مصوّرةٍ تُمجّد “صبر الناس” بينما الناس أنفسهم يُدفنون تحت الركام.
فمن يتحدث عن إنجازٍ سياسيٍ وسط هذا الخراب، يُسهم في إدامة الجريمة، لا في إنهائها.
إن أخطر ما يفعله التجميل السياسي هو أنه يُنتج واقعًا زائفًا يُشرعن استمرار المأساة، حين تُسوَّق الهزيمة على أنها نصر، يُمنح الجلاد فرصةً جديدة لإعادة الكَرّة، ويُسلب الشعب قدرته على المطالبة بالمحاسبة والعدالة، ومن يشارك في هذا التجميل، ولو بكلمةٍ واحدة، شريكٌ في الجريمة الأخلاقية، مهما تلثّم بالتحليل أو الادعاء بالموضوعية.
غزة لا تحتاج إلى خطباءٍ يتسابقون إلى الشاشات، بل إلى رجالٍ يواجهون الحقيقة كما هي: حربٌ لم تتوقف، ومأساةٌ لم تنتهِ، وشعبٌ لا يزال يدفع ثمن صفقاتٍ تُدار باسمه من وراء الستار.
تحتاج إلى أصواتٍ صادقةٍ تعترف بالكارثة لا تبررها، وتدافع عن الإنسان لا عن الشعارات، وتصرخ باسم الضحايا لا باسم المقاعد.
فليعلم المضلّلون والمجمّلون أن الحقيقة لا تُغسل بالتصريحات، وأن الصدق لا يُقاس بنبرة الصوت، بل بجرأة الاعتراف.
من يُنكر حجم الفاجعة يرتكب جريمةً مضاعفة: يقتل الضحية مرتين، ثم يبرر للقاتل.
غزة لا تريد احتفالًا بالرماد، بل وعدًا بالحياة.
ولا تريد من يصفق للهزيمة، بل من يضع الإصبع على الجرح، ويقول بوضوح:
كفى خداعًا... فالكارثة لا تُجمَّل، والدم لا يُنسى، والحقيقة لا تُشترى بابتسامةٍ باردة.

اخر الأخبار